الحمد لله رب العالمين، اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، صَلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد النبي الأُمّي الطَّاهر الزَّكِي، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعـــــــــد:
فإن لكل شيء خلقه الله في هذا الوجود غاية وَحِكْمَة، سواء كان جماداً أو حيواناً أو نباتاً، صغيراً أو كبيراً، عظيماً أو حقيراً، يقول الله عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) [آل عمران:190: 191] سبحانك ربي جَلَّ جلالك، ما خلقت شيئاً في هذه الدنيا باطلاً ولا عبثاً، فأنت المتصف بكل صفات الكمال، والـمُنَزَّه عن كل صفات النُّقْصَان.
ومن المعلوم أن العَبَثَ صفة نقص، لا تليق بالإنسان العاقل السَّوِي.
ولو أن إنساناً عمل عملاً لغير غاية وحكمة، وعلى غير هُدىً وبصيرة، فإنه عَابِثٌ بعقله ومروءته، فإذا كان هذا في حق المخلوق الضعيف الناقص، فما بالك بالخالق سبحانه: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) .
فما من مخلوق خلقه الله سبحانه إلا وله حكمة وغاية، فما بالك بالإنسان الكائن العاقل الذي هو أكرم مخلوق.
وإذا كان الناس يختلفون في الغايات، كما هو حالهم وواقعهم فإنما ذلك بسبب اختلاف تصوراتهم وعقائدهم.
وهذه الحكمة والغاية لا يحددها المخلوق لنفسه، وإنما يحددها الخالق سبحانه: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) [الملك:14].
ومن الأمثلة على ذلك :
1) الجمادات:
كالأرض وجبالها وبحارها، والسماوات وكواكبها وأفلاكها، ما خلق الله كل ذلك إلا لحكمة وغاية، وقد بَيَّن الله الحكمة من خلقها، فقال سبحانه: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10)) [الرحمن:10]:، (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7)) [النبأ:7]: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)) [الإسراء:12].
وإلى أين تنتهي؟
قال تعالى : (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)) [الانشقاق:3، 4] وقال سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105)) [طه:105] وقال سبحانه:( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)) [الانفطار:3] (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)) [إبراهيم:48].
2) الحيوانات:
ما الغاية مِنْ خلقها؟
لقد خلقها الله لحكم كثيرة، من أبرزها خدمة الإنسان، كما قال سبحانه: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)) [النحل:5: 8]
وإلى أين ينتهي أمرها؟ يحشرها الله، كما قال سبحانه: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)) [التكوير:5] ، فَيَفْصِلُ فيما كان بينها، ثم يقول لها: كوني تراباً، وكما قال سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)) [الأنعام:38]
ويدخل في عالم الحيوان الطيور، وكذلك الحشرات، وهي عالم عجيب، من يتأمل في أحوالها يجد في خلق الله لها حِكَماً لا تُعَدُّ ولا تُـحصى، ومن تلك الحكم ما هو معلوم للإنسان، ومنها ما هو غير معلوم له.
3) النباتات :
بأشكالها وأنواعها المختلفة، سخرها الله للإنسان، قال سبحانه: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) ) [عبس: 27: 32].
وقال سبحانه: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)) [النحل:11].
وقال جل في علاه: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)) [الرعد:4].
فالنباتات منافعها كثيرة، فمنها ما جعل الله منه الزينة، ومنها الروائح الطيبة، ومنها المناظر الجمالية، ومنها الظِّلاِل، ومنها الأدوية، ومنها الملبوسات، ومنها الثمار والفواكه والحبوب.
وأما نهايتها فإلى الزوال، قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:96]، وقال سبحانه: (وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)) [الحاقة:14].
4) المياه:
ما الغاية مِنْ خلقها؟ البحار– الأنهار– العيون – مياه الأمطار، كلها خلقها الله لحكمة وغاية، وكلها تخدم الإنسان، وعليها أيضاً يتغذى الحيوان والنبات، قال الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ) [الأنبياء:30] : (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)) [الحجر:22]، (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)) [النحل:14]، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32) ) [إبراهيم:32] .
وإذاً فقد خلق الله كل ما في هذا الوجود من سماواته وأرضه وَبَرِّه وبحره، لغاية وحكمة، من أبرزها خدمة هذا الإنسان.