الرئيسية / بقلم الشيخ / تأملات في الوحدة

تأملات في الوحدة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

في الولاء والنصرة والمحبة بين كل المسلمين وقاية من الفتنة والفساد، كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: ٧٣]؛ أي لا يكون الكفار أصدق منكم في وحدتهم وولائهم ونصرتهم لبعضهم فأنتم أولى بذلك منهم، والعجيب أن نرى في زماننا هذا إنشاء أكثر من وحدة واتحاد بين الدول الصليبية والوثنية، ونرى من بعض المسلمين من يدعو للانفصال والتمزيق بين أبناء البلد الواحد. ونقول لمن يدَّعي حزنه وأسفه على فلسطين ويرضى أو يرغب في تشتيت وتمزيق أبناء بلده؛ كم بينك وبين الصدق من مسافات؟!.

وكِتَابٌ واحدٌ معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أمرنا الله فيه بالوحدة والإعتصام بحبله سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) [آل عمران:١٠٣ ]. والحبل مكون من شُعَيْرَات والفارق بين الحبل والجبل نقطة واختار الله الحبل لأنه ملاذ ووسيلة للاعتصام ورمز للقوة.

وحرَّم الله التفرَّق: (وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: ١٠٣]، وذكَّر عباده بنعمة الوحدة والأخوة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: ١٠٣]، وحذَّر من التفرقة وأنَّ فيها الهلاك: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:١٠٣ ]، ففي التفرقة الضلال.. ثم يقول سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: ١٠٤]، وهذا لا يتم الا بالتعاون والعمل الجماعي الموحد، ثم حذر مرة أخرى من التفرق، وأن في ذلك العذاب العظيم قال جل في عُلاه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: ١٠٥].

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أول ما فعله أن آخى بين المهاجرين والأنصار.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم (أمان للأمة) وعند موته لم يعد لهذه الأمة امان ولا حفظ إلا باجتماعها، وكان هذا المفهوم معلوم عند الصحابة رضوان الله عليهم، فَقَبْلَ أن يُدفن عليه صلوات الله وسلامه اجتمع الصحابة في السقيفة واختاروا خليفة للمسلمين.

وهذا الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه قبيل موته عَيَّنَ ستةً من الصحابة ليتشاورا ويختاروا من بينهم خليفة للمسلمين وتَوَعَّدَهُم وامر بقتلهم إن لم  يتفقوا على اختيار خليفة من بينهم، وعمر في هذا اِمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ)([1]).

وهذا الحسن بن علي رضي الله عنه تنازل عن الخلافة لمعاوية حتى لا تتفرق الأمة وحِفَاظاً على وحدتها وَجَمْعِ كلمتها.

فَفِقْهُ اجتماع الأمة ووحدتها كان معروفاً عند الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين.

واللسان قد يجمع الأمة أو يفرقها، فبعض  العلماء فسر الكلمة التي تلقي بصاحبها أربعين خريفاً أنها الكلمة التي تفرق بين الأمة.

وقال بعضهم ما نكره في الاجتماع خير مما نحبه في التفرقة.

وكانت الأمة الإسلامية في عصر الخلافة العثمانية كالجسد الواحد ولما انهارت الخلافة وسقطت في عام 1924م ضاعت فلسطين وتفرقت الأمة وتمزقت، وأصابها ما أصابها من وَيْلات الذل والهزيمة والخذلان.

وعندما تفرق المسلمون وسقطت خلافتهم خسر العالم بأجمعه وقامت الحروب العالمية الأولى والثانية وقُتل فيها بشر كثير قرابة خمسين مليوناً، وهذا ما حذر الله منه في قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73] فعند تفرق المسلمين تكون الفتنة والفساد الكبير الذي يعم المسلمين وغيرهم.

وهذا ما عَنَاهُ العلامة الكبير أبو الحسن الندوي رحمه الله  في كتابه – ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين-.

فاجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم خير لهم وخير لغيرهم.

وحذَّر الله سبحانه من الوقوع في الفشل وذهاب الهيبة والعزة بسبب التنازع والتفرق… (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: ٤٦].

ولأهمية الوحدة مَنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصر والتأييد، وذلك بالتآلف والأخوة بين أصحابه كما قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: ٦٢ – ٦٣].

فألف بين أبي بكر التيمي وعلي الهاشمي وخالد المخزومي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي… قال سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: ٥٢]،  وقال جل في علاه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: ٩٢].

نحن أُمَّة الوحدة والإخاء والأُلْفة والطُّهْر والعَفَاف والعَدل والمساواة ولكننا غفلنا وعصينا وجهلنا… (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر: ١٩ ].

كان المسلمُ يولد في خراسان ويتعلم في مصر ويتزوج في الشام ويحكم في المغرب ويموت ويُقْبَرُ في الحجاز.

كالجَسَدِ الواحدِ كما قال نبي الألفة والمحبة صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)([2])،
هذا الجسد لا يُبتر عضو منه إلَّا بالتخدير فلنحذر من التخدير بالدعوات العرقية والسلالية والعنصرية والانفصالية، كما نُحَذِّرُ من التخدير بالفواحش والمنكرات فإن نجحَ الأعداءُ في تخديرنا فسيقطِّعون الجسدَ أوصالاً، وإن أخذنا حِذرَنا وحَفِظنَا ديننا ووحدتنا  وحافظنا على الجسد الواحد: (…تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالْحُمَّى والسَّهَر)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثم شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)([3]).

والألفة والتآلف من علامات الإيمان وصفات المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، الْمُوَطَّئُوْنَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ ويُؤْلَفُونَ، وَلَا خَيْرَ فِيْ مَنْ لَا يَأْلَفْ وَلَا يُؤْلَفْ)([4]).

والبركة والرحمة مرهونتان في الوحدة وجمع الكلمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الجَمَاعةُ بَرَكَة، والفُرْقَةُ عَذَاب)([5])، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الجَمَاعةُ رَحْمَة، والفُرْقَةُ عَذاب)([6])، و قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة)([7])، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لا يَجْمع أمتي على ضلالة و يَدُ الله على الجَمَاعَة)([8]).

———————————————————————————————

([1]) مسلم عن عرفجه (4904).

([2]) مسلم: ( 2586 )، عن النعمان بن بشير.

([3]) البخاري: (467)، ومسلم: (2585)، عن أبي موسى.

([4])  الطبراني في الأوسط: عن أبي سعيد، وحسن في صحيح الجامع (1231).

([5]) البيهقي عن النعمان بن بشير، وهو حسن في صحيح الجامع (3014).

([6]) أحمد: عن النعمان بن بشير، وهو في صحيح الجامع (5420).

([7]) عن أبي عاصم عن أنس، وحسن في صحيح الجامع رقم (1786).

([8]) الترمذي: عن ابن عمر، وهو في صحيح الجامع رقم(1848).

شاهد أيضاً

إذا أردت الآخرة؛ فطلق الدنيا وانقطع للعبادة!

الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *