الرئيسية / بقلم الشيخ / أصناف الناس في القرآن الكريم والسنة النبوية

أصناف الناس في القرآن الكريم والسنة النبوية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:-

للناس قُدرات ومدارك واستعدادات مختلفة ومتفاوتة، والمقياس والمحك لمعرفة ذلك هو موقف الإنسان من هدى الله عز وجل، قُرباً أو بُعداً قبولاً أو رفضاً، فعلى ضوء ذلك تظهر حقيقة هذا الإنسان ونوع معدنه. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم؛ العديد من الأمثال الواقعية والحسية التي تبين هذه الحقائق، نوضحها على النحو التالي:

–      الناس كالغيث والتراب:

ويُشَبِّه القرآن معادن الناس بالأرض في تفاوت وتفاضل تربتها, كما قال سبحانه وتعالى:  (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)[الأعراف:58].

ويضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً لذلك، فيقول: (مثل ما بعثني الله به من الْهُدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها نقيةً قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير, وكانت منها أجادِبَ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً, فذلك مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلِمَ وَعَلَّم, وَمَثَلُ من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به) (مسلم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما).

وهكذا فقلوب أصحاب المعادن الطيبة النفيسة؛ أوعيةٌ لهدى الله ومحبته ورحمته، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تعالى آنية من أهل الأرض, وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين, وَأَحَبُّها إليه أَلْيَنها وأرقُّها) (الطبراني، وصحيح الجامع، عن ابن عبسه، وكله وارد وصحيح.). وَمِثْلُهُ قوله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة، قلب أَجْرَد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أَغْلَف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصَفَّح، فالمصفح قلب فيه إيمان ونفاق، فَمَثَلُ الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة، يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه) (أحمد، عن أبي سعيد).

 وعلى ضوء ما سبق نجد أن: 1- من الناس من يتعدَّى نفعه إلى الغير. 2- وصنف آخر من الناس يقتصر نفعه على نفسه. 3- ومنهم من لا ينفع نفسه ولا ينفع غيره، بل يلحق الضرر بنفسه وبالآخرين، وهو شَرُّ الناس. وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لِكُمَيْلِ بن زياد: (يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم ربَّاني، ومتعلم على سبيل نجاة، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق) (نضرة النعيم والاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي).

     والناس كأنواع المياه:

فمنه الطاهر المطهِّر لغيره, ومنه الطاهر في نفسه، غير المطهِّر لغيره لاختلاطه بشوائب أخرى تغيَّر بسببها, ومنه المتنجِّس الذي خالطته نجاسة أو غلبت عليه فصار منجِّساً لغيره، وهكذا أحوال الناس.

 وقد سمّي الله المشركين نَجَساً؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة:28]. وسمّى الله شركهم رجساً؛ فقال: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج:30]. وقال تعـالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:125]. كما وصف الله المنافقين بأنهم رجس على رجس؛ فقال الله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:125].

     أكثر الناس غُـثاءٌ وزَبَـدٌ وحُثالَةٌ:

مما يؤسف له؛ الحالة التي وصلت إليها أمة الإسلام اليوم، من السَّلبية والضعف والمذلة والخذلان، وذلك بسبب ما أصابها من التهاون بأمر الدين، وضعف الشعور بالمسئولية، والإفراط في التعلق بالدنيا، وضعف اليقين بموعود الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: (يُوشك الأمم أن تَدَاعَى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: وَمِنْ قِلِّة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينـزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) (أبو داود، وأحمد، والصحيحة، وصحيح الجامع للألباني، عن ثوبان رضي الله عنه).

و(الغُثاء): ما يحمله السيل من القماش، أي الخرق البالية والقَشّ وما إلى ذلك من الأشياء الخفيفة التي لا قيمة لها مما يحمله السيل، وكذلك الغثاء والغثيان: أي خبث النفس، ويقال: قد غثّ نفسه، ومنه قوله تعالى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) [الأعلى:5]: أي: فجعله بعد أن كان أخضر غثاءً, أي هشيماً جافاً، كالغثاء الذي يكون فوق السيل, وهو أيضاً الزَّبَد المذكور في الآية سابقاً،  (أَحْوَى): وهو ما اسْوَدَّ بعد اخضرارٍ, وذلك أن الكلأ إذا يبس اسْوَدّ, قال قتادة: الغثاء الشيء اليابس, وقال في الصحاح، الحُوّة: سُمْرَة الشَّفَةِ.

ومن الأشياء اللطيفة في معنى الغثاء أنه يحركه غيره مهما كان هذا الذي يحركه ضعيفاً, فالشعرة مع رقتها وضعفها تحدث تقسيمات واضحة في الغثاء. (والحُثَالة أو الحفالة): هو حطام التِّبن (مجمل اللغة لابن فارس)،  يقال: (حَثُلَ) في المُحْثَل: وهو سيء الغذاء، وحثالة البِرِّ رديئه، والحثالة: الرديء من كل شيء.

عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يَذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة -وفي رواية: حفالة- كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بَالَه)( أحمد، والبخاري)، لا يباليهم الله: أي لا يرفع لهم قدراً، ولا يقيم لهم وزناً. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يأتي زمان يُغَرْبَلُ فيه الناس غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مَرَجَتْ عهودهم وأماناتهم) (أحمد، وأبو داود، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو في الصحيحة، وصحيح الجامع للألباني). وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أُفٍّ لحامل حق لا بصيرة له، يَنْقَدِحُ الشك في قلبه بأَوَّل عارضٍ من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يَدْرِ، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فُتِن به) (نضرة النعيم، والاعتصام، لأبي إسحاق الشاطبي).

     وأكثر الناس إِمَّـعَةٌ:

(والإمَّعَة): في اللغة أصلها (مَعَ)، ومعناها كما قال ابن فارس: هو الضعيف الرأي القائل لكل أحد أنا معك. ومنه قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا يكونن أحدكم إِمَّعَة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول أنا مع الناس) (الرياض النضرة).

وفي الاصطلاح؛ قال ابن الأثير: (الإمعة الذي لا رأي له، فهو يتابع كل أحد على رأيه، ويقول لكل أحد أنا معك). ويتصف بصفات الضعف والوهن والذل والتخاذل والكسل والتهاون والإهمال والسلبية في أمر الحق والخير. والأصل في هذا؛ ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكونوا إِمَّعة؛ تقولون إِنْ أَحْسَنَ الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، لكن وَطِّـنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا) (الترمذي، وقال محقق جامع الأصول: حديث حسن).

وقد عَرَّفَ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الإمعة عدة تعريفات، منها: أن الإمعة هو الفضولي الذي يتبع الناس على الطعام من غير دعوة، فقال: (كنا نَعُدُّ الإمعة الذي يتبع الناس على الطعام من غير أن يُدْعى). ومنها: أنه المقلِّد غيره في أمر الدين، فقال: (وإن الإمعة فيكم اليوم: المُحْقِبُ الناس دينه) وهو الذي يقلد دينه لكل أحد. وقال رضي الله عنه: (ألا لا يُقَلِّدَنَّ أحدكم دينه رجلاً؛ إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أُسْوَة في الشر). ومنها: أن الإمعة هو الجاهل المنبوذ من الله ثم من الناس، وكان ابن مسعود يقول: (أُغْدُ عالماً أو متعلماً، ولا تَغْدُ إمعةً فيما بين ذلك) (الترمذي، وقال محقق جامع الأصول: حديث حسن).

شاهد أيضاً

إذا أردت الآخرة؛ فطلق الدنيا وانقطع للعبادة!

الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *