الرئيسية / بقلم الشيخ / وفي أنفسكم أفلا تبصرون… 2

وفي أنفسكم أفلا تبصرون… 2

 تأمل في الإنسان؛ فإنه ما خلق الله فيه عضواً ولا جارحة، ولا عَصَباً ولا شعراً ولا بَشَراً إلا لحكمة، ومثالاً على ذلك؛ خلق الله له العينين ليرى، والأذنين ليسمع، والأنف ليشم، واللسان ليتكلم، والفم ليأكل، واليدين ليعمل، والرجلين ليمشي، وهكذا كل عضو فيه له وظيفة وغاية.

وكله ومجموعه لماذا؟ وما هي غايته؟

تَأَمَّل: أنشأ الله السَّحاب وخلق الرياح لتسوقها، وَكَوَّن منها مياه الأمطار، وأنزله غيثاً ليحيي به الأرض، وينبت به الزرع والنبات، وسخر كل ذلك للإنسان.

والإنسان خلقه لماذا؟ ما الحكمة مِنْ خلقه  وما هي غايته؟

هل خلقه الله عبثاً؟ هل الإنسان أَقَلُّ شأناً من قطرة ماء، أو نبتة أو شجرة في فَلَاةٍ؟

هل هو أقل نفعاً من النَّحْلة أو دودة القَزّ، أو عالم النمل، أو غنمة أو دجاجة؟ حاشا الإنسان العاقل أن يكون كذلك.

وتعالى الله سبحانه عن الْعَبَثِ، وهو الذي خلق الإنسان وكرمه وسخر له كل ما خلق، قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون:115: 116]، وقال سبحانه: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة:36].

إذاً فما هي تلك الحكمة؟ وما الغاية التي خلق الله الإنسان لأجلها؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، ينبغي الإجابة على سؤال آخر هو:

ما هي الغاية؟ وما تعريفها لُغَةً واصطلاحاً؟

الغــايــة:

أولا: معنـاهـا لغة واصطلاحاً:

الغاية في اللغة: “مُنْتَهَى الشيء”.

يقال: غاية الشيء: مُنتهاه.

قال في القاموس: الغاية: الْـمَدَى والرَّاية[1]).

وقال ابن فارس: الغاية: مَدَى كل شيء[2]).

وقال الجرجاني في التعريفات: الغاية: ما لأجله وُجِدَ الشيء.

وفي الاصطلاح: الغاية: هي التي ليس بعدها بعد.

 والغاية هي: طلب النفس لما هو خير من الواقع.

و هي أيضاً: ما تستوي فيها الحقائق المتعددة.

وإليك الأمثلة لكل ما سبق:

لو سألنا شخصاً يبني بيتاً، كيف ستبنيه، وبم ستبدأ؟

 لقال: أبدأ   بالأساس.

ولو قلنا له: ثم ماذا؟

لقال: ثم البناء حتى السَّقْف، ثم التَّلْيوس، ثم الطِّلاء، ثم التشطيبات.

ثم ماذا؟

سيقول: ثم التأثيث والفرش.

ثم ماذا بعد ذلك ؟

سيقول: ثم أسكن.

ولو قلنا له ثم ماذا بعد ذلك؟ ربما غضب وقال: لقد قلت لكم أسكن.

لماذا غضب؟ لأنه ليس بعد ذلك بعد.

فالغاية من بناء البيت، هي السكن.

والغاية: هي طلب النفس لما هو خير من الواقع .

ومثالاً على ذلك: لو سألنا الطالب المبتدئ.

كيف ستدرس؟

لقال: أدرس الابتدائية.

ولو قلنا له: ثم ماذا؟

لقال: أتخرج من الإعدادي، ثم الثانوي.

فإن قلنا له: ثم ماذا بعد ذلك؟ سَلْسِلْ لنا الغاية؟

نجد أنه سيصل إلى ما لا نهاية، لأن طلب العلم ليس له نهاية، ولا بد من غاية ليس بعدها بعد، وهي: طلب النفس لما هو خير من الواقع.

وكذلك لو سألنا التاجر، والمزارع، والطبيب، والمهندس … الخ.

وقلنا لكل شخص منهم: ثم ماذا ؟

ستستمر إجاباتهم إلى ما لا نهاية.

فإذا كان كل صنف منهم  لا يؤمن إلا بالدنيا، فهي غايته، وإذا كان مؤمناً باليوم الآخر، فذلك اليوم  الذي لم يأتِ بعد.

الغـايـة والـوسيلـة.

ولا بد لكل غاية من وسيلة، فالغايات لا تتحقق إلا بالوسائل،  ولا بد أن تكون الوسائل من جنس الغايات، فالغاية لا تبرر الوسيلة.

فطلب العلم مثلاً، ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية أخرى- وهي طلب رضوان الله وجنته- وهي التي ليس بعدها بعد، فنفس المؤمن تطمح دائماً لما هو خير من واقعها.

والغاية هي: (التي تستوي فيها الحقائق المتعددة).

  • فليست الغاية في الصحة، لأن في الناس أمراض.
  • وليست الغاية في الغنى والثَّراء، لأن في الناس فقراء.
  • وليست الغاية في المنصب والجاه، فليس كل الناس أمراء وأصحاب جاه.

والإنسان متعدد الأطوار، والناس ليسوا على حال واحدة وطور واحد، قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) [نوح:14]، وقال تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4].

فالإنسان تتبدل أحواله وتتغير أوضاعه، مِنْ فقر إلى غنى، ومن غنى إلى فقر، ومن ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف، ومن صحة إلى مرض، ومن مرض إلى صحة، وهكذا في سائر أحواله. فإذاً لا بد أن تَنْصَبَّ كل الأعمال والأحوال والأطوار في غاية واحدة.

ولذلك فالنعيم في الدنيا أياًّ كان نوعه وحجمه، قد يفوتني أو أفوته. يفوتني بالزوال والحرمان، أو أفوته بالعجز والضعف، أو الفراق والموت.

أما النعيم في الآخرة، فلا يفوتني ولا أفوته، لا يفوتني بالمنع والحرمان، ولا بالزوال والانقطاع، ولا أفوته بالعجز والضعف، ولا بالموت والفراق، لأن نعيم الآخرة خاص بالمؤمنين، ولن يشاركهم فيه غيرهم، وهو لهم دائم ومؤبد، قال جل وعلا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تأمل بقية الآية: (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:32] ، وقال سبحانه في النعيم الخالد: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) [الرعد:35] : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) [الأحزاب:65].

والإنسان بطبيعته لا يصلح للدنيا على الدوام، فإنه إذا طال عمره ستنتهي صلاحيته حين يَهْرَم ويَعْجَز، وحين يفقد حواسه ولا يعقل شيئاً، لأنه مع الْكِبَرِ وَالْـهَرَمِ يموت تدريجياً، وإن كانت مُسَمَّيَات الدنيا باسمه، وصدق الله إذ يقول:( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النحل:70] .

والغاية عند أهل الإيمان، هي الهدف النهائي والأكبر، وهي التي تُتَّخَذُ لها  كل النيات والأقوال والأفعال وتنتهي عند الله عزوجل: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42].

(إن الله تعالى قد أراد بنا شيئاً، وأراد منا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أرداه بنا عما أرداه منا)[3]).

( إن الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف تيسيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ)[ص:27] )[4]).

————————————————————————————

[1] قاموس المحيط.

[2] مجمل اللغة.

[3] قالها الإمام الصادق- العقيدة الإسلامية كما جاء بها القرآن/ للإمام محمد أبو زهره

[4] قالها الإمام علي رضي الله عنه، أنظر المرجع السابق.

شاهد أيضاً

إذا أردت الآخرة؛ فطلق الدنيا وانقطع للعبادة!

الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *