الرئيسية / بقلم الشيخ / معادن الناس في القرآن الكريم والسنة النبوية

معادن الناس في القرآن الكريم والسنة النبوية

إذا تأملت أخي القارئ الكريم؛ إلى أخلاق الناس وواقعهم وأحوالهم، وإلى وصف القرآن لكل صنفٍ منهم، تجدهم أصنافاً عديدة؛ منها ثمانية أصناف معادنهم رديئة تافهة، ومعدن واحد هو المعدن الطيِّب النفيس، وله درجات ومراتب.

وقد ورد في القرآن الكريم ذكر تلك الأصناف وحقيقتها، وما ستؤول إليه في نهاية المطاف، في آيات عديدة، كل آية منها تبدأ بقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ)، بمعنى أن تلك الصفات لا تشمل جميع الناس، وإنما البعض منهم، وهم من تنطبق عليهم تلك الصفات، ومعلوم أن: (وَمِنَ النَّاسِ) تفيد التبعيض.

فما أحوجنا جميعاً إلى أن نتأمل ونتدبر في تلك الآيات، ونقيس أنفسنا عليها، ليعرف كل منا من أي المعادن هو، فمن وجد خيراً وطيباً وأصالةً في نفسه فليحمد الله على فضله، وليتمسك بتلك الصفات الطيبة، وليستزد منها ولينمِّها وليقوِّها في نفسه، وليحافظ عليها، فهي أغلى من الذهب والفضة والدرر والجواهر.

ومن وجد شيئاً من صفات أصحاب المعادن الرديئة أو الخبيثة في نفسه؛ فليبادر إلى العلاج الناجع، والدواء النافع، ليصقل نفسه بالقرآن والسنة، ففيهما الشفاء بإذن الله، وليحذر التهاون والتمادي لأن عاقبة ذلك وخيمة.

وسنبدأ بذكر المعادن المذمومة، ونوضح ما هي، وما مظاهرها وعلاماتها، وأثرها وخطورتها، وعاقبة ومآل أصحابها في الدنيا والآخرة.

أولاً: المعادن الرديئة والخبيثة

وهي المعادن التي ذكرها القرآن في سياق الذم والتحقير والتهديد والوعيد، كما سترى أخي القارئ في الآيات الكريمة من كتاب ربك. وهي أصناف ومعادن ثمانية، تمثل صفاتٍ مذمومة، تبدأ من الضعف والسلبية، وتنحدر بأصحابها نحو هاوية العصيان والخبث والقبائح.

وتكاد تكون كُتَلاً من القمامات والنفايات الرديئة الحقيرة، تتجمع على أصحابها، فتجعلهم أكواماً من الزبالة، تُرْمَى في الْحُفَر لإحراقها, كما قال سيد قطب رحمه الله: (الدنيا جمع الله فيها الخبيث والطيِّب, وهي كالمنخل لمعادن بني آدم، فيظهر ويتميز المعدن الطيب النافع، ومن خَبُثَ منهم سينتهي به المطاف إلى مَقْلَب وحفرة النفايات البشرية النار…) ([1]). (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)  [الأنفال:37].

ونبين هذه المعادن فيما يلي:

1)  فمن الناس من هو منافق كذاب:  قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:8، 9].

2)  ومن الناس من هو واقع في أشد أنواع الظلم؛ حيث يساوي بين حبه لله سبحانه وحبه لغيره، فيكون بذلك قد اتخذ من دون الله أنداداً؛ كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).  أما المؤمنون فحبهم لله لا يساويه أي حب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ). أما الظالمون فسيرون عاقبة ظلمهم هذا: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165].

3)  ومن الناس من هو مضطرب سريع التقلب؛ ضعيف الإرادة، دنيء الهمة، يخشى الناس أكثر من خشيته لله تعالى, فلا يُضَحِّيْ من أجل ربه ودينه، ولا يثبت على إيمانه؛ قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:10].

4)  ومن الناس من هو مجادل مغرور؛ جاهل متعالم مُعْرِضٌ عن هدى الله، مُتبع لدعوة كل ناعق من شياطين الإنس والجن، فتراه فيما يتعلق بحقوق الله وشرعه سلبياً مجادلاً مُبَطِّئاً مُخَذِّلاً، ومع الباطل والشياطين تراه إيجابياً ونصيراً مستجيباً، قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) [الحج:3]، وقوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:8، 9].

 

5)   ومن الناس من هو عبد لشهوته, متبع لهواه: قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [لقمان:6]. فتراه ينشغل بذكر المخلوقين وأخبارهم عن ذكر الخالق وآياته، ويَتَلَهَّى بالأغاني والملاهي عن طاعة الله وعبادته، بل ربما يُمضي الساعات الطويلة يُقَلِّبُ أمواج المذياع أو القنوات الفضائية أو شبكة ومواقع الإنترنت، لا للفائدة والمنفعة، ولكن ليَتَلَهّى وينشغل بالصور العارية، والأغاني الماجنة، وغيرها من المواد والبرامج الإعلامية الهابطة والمدمرة، التي يبثها ويروج لها الحثالة من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات وغيرهم من أعداء الفضيلة والقيم، الذين فقدوا معاني الغيرة والشرف والفضيلة، فأصبحوا في طباعهم كالقردة والخنازير.

قال صلوات الله وسلامه عليه: (ليشربن أناس من أمتي الخمر؛ يُسَمُّونها بغير اسمها، ويُضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات([2])، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير)([3]).وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (لَيَبِيْتَنَّ أقوامٌ من أمتي على أكلٍ ولهوٍ ولعب، ثم ليُصبِحُن قردةً وخنازير)([4]).

6) ومن الناس من هم عبيد للدنيا؛ فهي عندهم الهدف والغاية، ومقياس الرضا والسخط، وميزان السعادة والشقاوة. حتى لو أن أحدهم سأل الله أو دعاه، تراه لا يسأله إلا الدنيا ومتاعها وزينتها، قال تعالى: (فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة:200].

 وقال صلوات الله وسلامه عليه: (تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة([5])، تعس عبد الخميلة([6])، إن أُعْطِي رضي وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس وإذا شِيْكَ فلا انتقش)([7]). وفي رواية: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم)([8]).

7) ومن الناس من هو ماكرٌ مخادعٌ مغرور؛ ثعلبٌ ماكر، وجبانٌ حقود، يتحين الفرص ليطعن من وراء الظهر، يعشق إثارة الفتن، ويسعى للتخريب والإفساد في الأرض.

تأمل معي هذه الآيات، وهي تبين هذا النوع الحقير، الذي يمكر بالناس ويخادعهم بالكلام المعسول، وإمعاناً في الخداع والكيد، يُقْسِمُ الأيمان، ويُشْهِد الله على أن ما يقوله بلسانه هو الذي في قلبه؛ قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة:204]. والله العليم الخبير ببواطن الأمور؛ يفضح حقيقة حاله وَأَمْرِهِ، فيقول عنه: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة:204].

فهذا النوع من الناس، شرير دجال، شديد الخصومة والأذى للناس، بدليل أنه إذا تولى أمر الناس، أو تمكن من مركز القرار، أو امتلك القدرة على فعل مـا يريد؛ أفسد في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، ولا يرى الناس من معسول كلامه ووعوده شيئاً: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205].

وهو في نفس الوقت معجبٌ بنفسه، مغرورٌ مستكبر، لا يقبل النقد ولا النصح: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:206]. فإلى أين سينتهي أمره: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) البقرة:206].

وفي هذا الصنف الخبيث النَّكِد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَ شَرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ)( صحيح الجامع)، والرعاء: الأمراء، والحطمة: الطمَّاع، قاسي القلب، شديد الغفلة، وبهذه الصفات القبيحة يحطم رعيته.

8) ومن الناس من هو مَصلحي خوَّار: يَتَلَوَّن بحسب الظروف والمصالح الشخصية العاجلة، يدور مع المادة حيث دارت، فهي عنده الباعث والدافع، فتراه عند وجودها يتظاهر بالصلاح وكأنه وليٌ من أولياء الله، محبٌ ومؤيدٌ للصالحين.

 وعند تعرضه للنقص أو الحرمان المادي، فسرعان ما يبدل موقفه، وينقلب على وجهه عن الدين وأهله، لأنه يعبد الله على حرف، على لحظة المكسب المادي، فالمصلحة المادية عنده هي الحرف والمرتكز والمنطلق، وهي سر طمأنينته ورضاه، وليس الإيمان والمبدأ والمعتقد.

فتأمل -أخي القارئ الكريم- إلى كلام ربك في هذا المعدن الرديء، قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


([1]) في ظلال القرآن، بتصرف.

([2]) القينات: المغنيات.

([3]) صحيح الجامع.

([4]) صحيح الجامع.

([5]) الخميصة: نوع من الثياب.

([6]) الخميلة: نوع من الأثاث.

([7]) البخاري.

([8]) رواه ابن ماجة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

 

شاهد أيضاً

إذا أردت الآخرة؛ فطلق الدنيا وانقطع للعبادة!

الحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *